الطريق إلى هامبورغ
... بدأت بحلم ربيعي وانتهت بكابوس شتوي
كتب: سهيل الحويك
منذ أن وصلتني الدعوة إلى ألمانيا لحضور إطلاق
إحدى السيارات الرياضية قبل شهرين (2003)، شعرت برعشة غريبة.
كيف لا والرحلة ستحملني إلى ألمانيا خلال الفترة
من التاسع وحتى الثاني عشر من تشرين الاول/أكتوبر، وبالتالي ستمثل فرصة ذهبية
ونادرة لي لحضور مباراة الـ"ناسيونال مانشافت" (المنتخب الوطني باللغة
الألمانية) مع أيسلندا على الطبيعة في الحادي عشر منه في مدينة هامبورغ الشمالية ضمن
الجولة الأخيرة والحاسمة من تصفيات المجموعة العاشرة المؤهلة إلى نهائيات بطولة
كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم المقررة في البرتغال العام المقبل.
حقيقةً، لم تعد تهمني تغطية إطلاق السيارة بقدر
اهتمامي بالاستعداد لحضور المباراة والوقوف ربما على مرمى حجر من ميكايل بالاك
واوليفر كانّ وفريدي بوبيتش ورودي فولر.
ومنذ الوصول إلى مطار هانوفر المتواضع مروراً
بمطار فرانكفورت المتباهي، شعرت بخفة وزني وبابتسامة ما انفكت تفارقني، ليس بسبب
الزيارة إلى ألمانيا التي اعتدت عليها، بل نتيجة اقتراب موعد المباراة أو فلنقل
موعد اللقاء مع استاد هامبورغ.
وفي الطريق من مطار هانوفر إلى مدينة فولفسبورغ
حيث الفندق الذي كان من المقرر أن أنزل فيه، بدأت اشعر باقترابي من شتيفان ايفنبرغ،
لاعب نادي فولفسبورغ السابق والمنتقل قبل اشهر إلى النادي العربي القطري.
هذا ما أحسست به رغم رحيل ايفنبرغ، ربما لكونه
مرّ في المدينة التي ارتبطتُ معها بعلاقة ود سريعة رغم كونها تبعد عن مسقط رأسي
مسافة زمن ورحلة قوامها آلاف الكيلومترات.
استاد فولكس فاغن في مدينة فولفسبورغ يقع على
بُعد 200 متر من غرفتي في الفندق، يا لمحاسن الصدف.
فريق فولفسبورغ ألحق الهزيمة الأولى ببايرن
ميونيخ بطل ألمانيا وحامل كأسها في الموسم الماضي ضمن بطولة الدوري الحالي وذلك
على الملعب الذي يقع على بُعد 10 دقائق من سريري.
صراحةً، كنت سعيداً للغاية رغم أن الاستاد،
بزجاجه الأخضر الرائع، لم يرتعش لهمساتي، لم يؤمن بعشقي له وللمستديرة التي ما كان
هو لو لم تكن هي...
انتهى اليوم الأول من الرحلة، فالثاني...
غداً موعد المباراة الكبرى ... ألمانيا يكفيها
التعادل لبلوغ النهائيات الأوروبية التي حملت كأسها ثلاث مرات (رقم قياسي) أعوام
1972 في عصر فرانتس بكنباور و1980 أيام كارل هاينتس رومينيغه و1996 في عهد يورغن
كلينسمان.
غداً موعد لقائي مع استاد نادي هامبورغ العريق...
نادي هامبورغ الذي خرّج هيرست روبيش، صاحب الهدف "الأرخص"
في تاريخ كؤوس العالم والذي أحرزه في مرمى النمسا في مونديال 1982 في مباراة سلبية
أخلاقياً كان الهدف منها وضع الجزائر وماجر والبللومي خارج الدور الأول من البطولة،
هامبورغ الذي خرّج فيليكس ماغاث، مدرب شتوتغارت متصدر الدوري الألماني حالياً، هامبورغ
الذي صنع مانفرد كالتس واستعان في فترة من الفترات بالقزم الإنكليزي كيفن كيغان
مدرب مانشستر سيتي الحالي.
مع كل هذه الذكريات، ضربت موعداً في 11 تشرين
الاول/أكتوبر 2003.
الأحاسيس سيطرت على الواقع، وعشية المباراة
المنتظرة، توجهت إلى صالة الاستقبال في الفندق أسأل عن كيفية التوجه إلى هامبورغ...
بادرتُ موظفة الاستقبال بابتسامة واثقة، وسؤال ممزوج
بكلمات ألمانية ثقيلة وأخرى إنكليزية انتشلتني من مأزق:"أود التوجه إلى
هامبورغ غداً لحضور مباراة ألمانيا وأيسلندا. ماذا تقترحين علي؟".
أجابت بسؤال كاد أن يبكيني:" مباراة
ماذا؟"...
أردت صفعها أو على الأقل نهرها، كيف لها الحق في أن
تكون ألمانية ولا تدرك أهمية المباراة التي قضيتُ شهرين أحلم بها، شهرين أتقلب في
سريري بسببها؟
"ألا تعلمين أن ألمانيا ستخوض غداً مباراة
حاسمة؟"، أجابت:" للأسف مستر، لا أحب كرة القدم".
قلت لها بالعربية مدركاً أنها لن تفهم
شيئاً:" لن تتابعي المباراة وتدّعين أنك ألمانية؟".
أخذَت كتاباً انزلق من يديها الناشفتين مرتين
وأخذت تقلب صفحاته قبل أن تقول:" نوصلك نحن من الفندق إلى هامبورغ الواقعة
على بعد 200 كلم من هنا ونعيدك إلى فولفسبورغ مقابل 400 يورو".
كالصاعقة نزل علي الخبر، وعملية حسابية بسيطة
كشفت لي أن كل كلم سيكلفني يورو واحداً.
المباراة تستحق إنما المقابل المادي مرتفع أكثر
من درجة حرارة جسمي الذي ازرقّ من جراء كلفة الطريق.
قلت لها:" أذهب بالقطار"، ردت:"
الذهاب أوكي أما العودة فغير مضمونة"...
فجأةً، ابتعدت هامبورغ عن متناولي، أصبحت بعيدة
بعد السماء عن الأرض. احتبست الدمعة، الغصة، حتى كلمة شكر استكثرتها بتلك الفتاة
التي لم يجذبني فيها حتى كونها أنثى.
خسرتُ المباراة الحلم، توجهت إلى الغرفة، كدت
أبكي لولا رنين الهاتف الذي شق هدوء المكان.
"آلو"، قلتها من دون نفس...
"مستر حويك"...
أجبت:"يس"...
إنها المضيفة نفسها، تلك التي قتلت حلمي وبثت
التعاسة فيّ، قلت:" وَت دو يو ونت؟"
ردت:"نسيت جهازك النقال عندنا".
نزلت إلى بهو الفندق، استقبلتني بابتسامة روتينية
تشبه تمثيلية أطفال صغار، ابتسامة تقبض ثمنها في اليوم الأخير من كل شهر.
أخذت النقال، ثم سألتها ومرارة الخيبة تسيطر
علي:" ألا يوجد هنا أي شخص قادر على مساعدتي لحضور المباراة؟".
ربما شعرت بالشفقة علي، فسألتني: "ألهذه
الدرجة تحب كرة القدم؟".
ولأنتقم منها، قلت:" أعشقها أكثر مما أعشق
المرأة".
نادت على شخص، وطلبت منه مساعدتي.
بدا عليه الاهتمام بي وبالمباراة بشكل خاص،
ابتسمتُ وفرحتُ به ولأجله.
سألني متهكِّماً بعد أن سردت عليه قصتي:"
تذكرة المباراة معك؟"، أجبت:" لا، سأشتريها عند باب الدخول".
ضحك ربما علي وقال:" أتعلم أن التذاكر نفدت
منذ أكثر من تسعة أشهر؟".
وقع كلامه علي كالصاعقة أيضاً، سامحت المضيفة
وحظي وقدري، وغفرت لنفسي.
شعرت بالراحة بعد حين، شعرت كمن قام بما طُلب منه
وفشل فشُكِر على المحاولة.
ابتسمت وصعدت إلى الغرفة وغفوت على مرأى من استاد
فولفسبورغ نفسه.
في اليوم التالي، وبعد أن فقدت الأمل في رحلة
هامبورغ الحبيبة، قررت حضور المواجهة في إحدى الحانات حيث تُعرض المباريات عادةً
على شاشة عملاقة.
حل لذيذ بعد المرارة التي أذاقتني إياها الرحلة
الحلم إلى هامبورغ.
وصلتُ إلى تلك الحانة التي اكتظت بالحضور.
صراخ، زحمة خانقة، رائحة الكحول تعصف بالمكان،
كلمات بالألمانية لم افهم سوى نصفها، هذا فقد الوعي من شدة الشرب، وذاك التصقت
بشاربيه الطويلين ذكرى كوب من الجعة، وتلك شبه عارية مرتمية في حضن ذاك.
مشهد بعيد عن الرياضة، نَعم، ونِعم الرياضة.
ضقت ذرعاً بتلك الدردشات بين هذا وذاك، "يا
أخي أريد التركيز على المباراة" قلتها في نفسي.
وانطلقت المباراة، استاد هامبورغ لا مقعداً
شاغراً فيه، شعرت بالسعادة لكوني جزءاً مما يدور هناك في الملعب.
بالاك يسجل الهدف الأول إثر تمريرة بالكعب من
بوبيتش، ألمانيا تتقدم بهدف.
من حيث كنت جالساً، إختفت الشاشة، إحتفال مجنون
في الحانة، شظايا المشروبات الكحولية تتطاير هنا وهناك، شعرت بسعادة، بمعمودية
كحولية ألمانية، شعرت بأنني جزء من الحدث.
الشوط الأول ينتهي 1/صفر لألمانيا، التنفس بات
صعباً في الحانة، البرد الذي يحمله كل داخل علينا من الخارج قضّ مضجعي.
رائحة
العرق تفوح من ذاك الشاب الذي يرقص على مسافة متر مني والقنينة في يده والسيجارة في
أخرى.
الجو غير صحي، علي العودة إلى الفندق فوراً
لأتابع الشوط الثاني عبر شاشة التلفزيون. على الأقل، سأتمكن من التركيز. فأنا في
ألمانيا والمباراة في ألمانيا، وبالتالي أنا جزء من الحدث مهما اختلف موقعي، سواء
برضاي أو بغيره.
قفلت عائداً إلى الفندق الذي أغواني الدفء فيه
بعد أن اشتدت البرودة في الخارج، استلقيتُ على السرير الناعم، وتابعتُ الشوط
الثاني، هدفان لألمانيا من توقيع بوبيتش وكورانيي، الجماهير تعصف بالاستاد مرددة "رودي
... رودي"، تبايع المدرب بعد أن هاجمته إثر المباراة السلبية مع ليتوانيا ضمن
التصفيات نفسها.
ألمانيا تتأهل مباشرة إلى النهائيات واسكتلندا
تنتظر الملحق.
امتدت السهرة حتى الساعات الأولى من الفجر حيث
حرصت على متابعة عرض التلفزيون الألماني للقطات متفرقة من المباريات الأخرى ضمن
التصفيات نفسها.
غفوت، وفي اليوم التالي، حان موعد العودة إلى
الكويت، الطريق من فولفسبورغ إلى مطار هانوفر يحتاج إلى حوالي الساعة.
وقت كاف لمتابعة ما تبقى من سباق جائزة اليابان
الكبرى، الجولة الأخيرة من بطولة العالم لسباقات فورمولا واحد، عبر جهاز الراديو.
طلبت من السائق التابع للشركة التي دعتني إلى
ألمانيا أن يترجم لي ما يقوله المذيع بين الفينة والأخرى.
السباق كان ممتعاً، وفي النهاية أحرز البرازيلي
روبنز باريتشيللو المركز الأول وزميله في الفريق، الألماني ميكايل شوماخر المركز
الثامن، فحصل الأخير على نقطة واحدة منحته اللقب العالمي للمرة السادسة (رقم
قياسي) في تاريخه.
طبعاً، ألمانيا في قمة سعادتها، كيف لا والمنتخب
تأهل إلى "يورو 2004" وشوماخر تُوِّج بطلاً للعالم...
سألني السائق:"أتتابع الرياضة؟" أجبت:
"طبعاً".
قال:" حضرت بالتأكيد مباراة الأمس".
"نعم بالتأكيد حتى أنني حاولت الذهاب إلى
هامبورغ لكن أموراً كثيرة اعترضتني".
قال:" نظمت البلدية هنا في فولفسبورغ
للمشجعين رحلة إلى هامبورغ لحضور المباراة بمبلغ زهيد. كنت أود الذهاب إلا أن دوام
العمل منعني".
وصلت المطار مكسور الجناح، مقتولاً، كدت أن أبكي.
الفرصة كانت في متناول يدي وأضعتها.
رافقتني ذيول الحادثة طيلة الطريق إلى الكويت،
وعندما أطلعت صديقي على ما حدث، قال بكل سذاجة:" خيرها بغيرها".
ذكرى جدار استاد فولفسبورغ الزجاجي ما زال يلمع
في مخيلتي، رائحة الكحول الممتزجة عرقاً في تلك الحانة ما انفكت تخنقني، هدف بالاك
في مرمى أيسلندا ما برح يشد إعجابي، صوت ذاك السائق الغبي مترجماً لي تفاصيل سباق
اليابان ما زال يسيطر على مسمعي، أسفي على ضياع فرصة الذهاب إلى هامبورغ تعادل
خيبة بايرن ميونيخ الألماني إثر خسارته كأس دوري أبطال أوروبا أمام مانشستر
يونايتد الإنكليزي العام 1999.
أردت أن أكون جزءاً من الحدث، حاولت أن أكون ذاك
الجزء الذي تخيلته منذ وصول الدعوة إلى ألمانيا.
قد أكون نجحت أو وفقت رغم أنني مقتنع بإخفاقي.
سلامي إلى هامبورغ، إلى روبيش ورأسه الذهبية ...
ربما كان صديقي على حق عندما قال:"خيرها بغيرها".