كتب سهيل الحويك
لم أفرح بتاتاً بالأنباء التي تحدثت عن وصول الاسباني جوسيب غوارديولا الى
بايرن ميونيخ الالماني لتولي القيادة الفنية للفريق.
كنت في دبي في تلك الأثناء عندما أبلغتني شقيقتي بالأمر عبر رسالة
"واتساب".
في العائلة، لا ندين بالولاء لكرة القدم الجميلة. نؤمن فقط بالانتصارات، ويعتبر
عشقنا لألمانيا ولكل ما له صلة بها ... مسألة مبدأ.
ترددتُ في التعبير عن موقفي، وبقيت هي تنتظر رداً لتبني على الشيء مقتضاه.
"ما حسيتك مبسوط" كتبَتْ.
شعرت بالحيرة وخانني التحليل الفوري، أنا من يُعرف عنه سرعة البديهة حيناً
والتسرع حيناً آخر.
لم أهضم خطوة مجلس ادارة بايرن باستقطاب "بيب". أنا
"ألماني"، فكيف لإسباني كاتالوني ان يقود فريقي المفضل؟
نعم، أدرك ان الهولندي لويس فان غال تولى تدريب البايرن قبل سنوات، لكن
غواريولا يمثل "فلسفة" قائمة بذاتها.
لطالما اعتبرتُ "بيب" دخيلاً على عشقي الكروي، الا انني ارتضيت
به انطلاقاً من ولائي للنادي الذي اعشق منذ العام 1979.
حدث بعدها أن قام البايرن بزيارة خاطفة الى الكويت قبل اشهر بغية خوض
مباراة ودية استكمالاً لمعسكره الشتوي في قطر.
شعرت ان الفرصة لاحت امامي. جاءت اللحظة المناسبة.
لم ابحث من السؤال الذي وجّهته الى ماتياس سامر، المدير الرياضي في بايرن ميونيخ،
إستفزازاً، بل إشباعاً لحشريةٍ في داخلي.
جمع المؤتمر الصحافي الذي سبق المباراة من الجانب البافاري، الهولندي اريين
روبن وسامر، بالإضافة الى المترجم.
تعرّض روبن لوابل متوقع من الأسئلة التي راوحت ما بين الروتيني والفضفاض، فيما
اكتفى سامر بتبادل اطراف الحديث همساً مع المترجم الذي لم يبدِ اهتماماً بنقل رد الهولندي
على سؤال وُجه إليه عن شعوره بعد هدف الفوز في مرمى بوروسيا دورتموند بنهائي دوري ابطال
اوروبا 2013، او على رغبته بالمشاركة في مونديال 2022 خصوصاً بعدما أغفل السائل أن
آريين سيكون متقاعداً عندما يحين موعد الحدث العالمي في قطر!
اخترتُ الانكليزية لغةً. وقفتُ مرتدياً قميص البايرن وثبّتُّ نظري في عيني سامر
متسلحاً ببطاقة التعريف الصحافية المعلقة حول عنقي، وقلت: "يمثل بايرن ميونيخ
فخر كرة القدم الالمانية ورمزها المتلألئ في اوروبا والعالم. لم أفهم لمَ أنتم الالمان
القيّمون على البايرن أقدمتم على جلب مدرب إسباني. كيف لجوسيب غوارديولا صاحب الفكر
الكاتالوني ان ينجح في نادٍ الماني صميم؟ هل كنتم بحاجة اليه في ظل وجود خبراء المان
على اعلى مستوى؟ ألم تكن مخاطرة منكم؟".
لم يتأخر سامر بالرد وبصرامة: "في كرة القدم اليوم، لا اختلاف بين الماني
واسباني وانكليزي وهولندي وغيره. هذه اللعبة هي مسألة فكر (مشيراً بأصبعه الى رأسه)
ونظر (مشيراً الى عينه) وقول (مشيراً الى شفتيه). لقد أتينا بأفضل مدرب في العالم الى
افضل ناد في العالم"، وتابع: "اني اثني على النجاحات التي حققها غوارديولا
مع بايرن هذا الموسم بعد الحصول على لقبي كأس السوبر الاوروبية وكأس العالم للأندية.
بايرن ميونيخ ناد كبير وله اسلوب مميز وفلسفة كروية فرضت نفسها على الساحة العالمية"،
مختتماً ان "الفريق يسير في الطريق الصحيح نحو تكرار انجاز الخماسية".
رحل سامر. لم أقتنع أنا. لست ألمانياً أكثر منه الا انني بالتأكيد متعصب له
اكثر مما هو متعصب لـ"ألمانية المعتَقَد".
دارت الايام على عجل منذ وصول غوارديولا. انا لا احبه. ادعمه لأنه
"مدربي" وجزء من المنظومة.
وكنت قد حللت مطلع الموسم ضيفاً على برنامج "الجماهير" في
تلفزيون "الراي" حيث عبّرت بطريقتي العصبية المباشرة المعتادة عن موقفي
وذكرت بعد ان استسمحت المشاهدين: "غوارديولا جيء به الى بايرن لاحراز دوري الابطال.
إن لم يفعل، فسيسقط في مزبلة التاريخ".
حاول البعض القاء لوم علي بسبب سوء الكلمة (مزبلة) بيد ان مقدم البرنامج
الزميل محمد جوهر حيات لعب دور محامي الدفاع وقال: "الريّال (اي الرجل)
استسمح المشاهدين قبل ذكر الكلمة".
وفي حلقة أخرى من البرنامج نفسه، انتقدت ريال مدريد الاسباني على تخليه عن
الالماني مسعود أوزيل لمصلحة ارسنال الانكليزي.
قلت إن "حملة الملكي لتحقيق العاشرة تشترط وجود لاعبين بمنزلة أوزيل"،
واضفت أن "التعاقد مع لاعبين من امثال خيسي وايارامندي لا يفي بالحاجة".
حتى انني قمت بمقارنة: "اذا غاب انييستا عن برشلونة، فإن المنظومة
تختلّ، وهذا نفسه ما سيحصل لريال بعد رحيل أوزيل".
عندما تتمنى سقوط اعدائك لتثبت صحة نظريتك، فتأكد أنك اصبحت قريباً من
الجبن. كانت وجهة نظر، قد تصيب أو تخيب.
ثم جاء سقوط بايرن امام ريال في جولة الاياب من الدور نصف
النهائي لدوري الابطال. وأين؟ في "اليانز آرينا".
هي هزيمة من نوعية تلك التي شهدت السقوط
المدوي لمنتخب المانيا امام انكلترا 1-5 في الـ"اولمبيا شتاديون" في
ميونيخ بالذات ضمن تصفيات مونديال 2002.
عندما سجل سيرخيو راموس هدفيه، لم تنقطع
انفاسي. حتى لدى تسجيل البرتغالي كريستيانو رونالدو هدفه الثاني، لم أشعر بالضيق
الذي لطالما قضّ مضجعي في كل مرة يُقصى فريقي من بطولة ما.
الخسارة صفر-4 امام "الملكي" لم
تكن بمرارة الهزيمة امام تشلسي الانكليزي في نهائي نسخة 2012 من المسابقة
الاوروبية الام على الملعب نفسه.
تشلسي لم يكن يستحق. ريال مدريد استحق ... وبجدارة.
حتى في 2010 عندما هوى بايرن امام انترميلان
الايطالي بهدفي الارجنتيني دييغو ميليتو في النهائي، كان الوضع قابلاً للهضم.
الفريق البافاري خسر نهائيي 2010 و2012 بيد
انه لم يتنازل عن هويته في المناسبتين. سقط بحقيقته وليس بقناع غيره. ثم لم يبدأ
من حيث انتهى، فأفرز ذلك لقباً قارياً عزّ عليه طويلاً في 2013 على حساب مواطنه
بوروسيا دورتموند 2-1.
ريال مدريد لم يهزم بايرن ميونيخ 1-صفر
ذهاباً و4-صفر اياباً فقط. "الملكي" أجبر "العملاق البافاري"
على خسارة "كل شيء".
يدّعي البعض أن غوارديولا قاد الفريق الى
تحقيق ثلاثة القاب حتى الساعة تمثلت في كأس السوبر الاوروبية وكأس العالم للأندية
والدوري الالماني كما ان لاعبيه مدعوون لمواجهة دورتموند نفسه في نهائي الكأس
المحلية.
هذا صحيح الا ان "اف سي هوليوود" -
وهو لقب بايرن - عانى الامرين امام تشلسي في كأس السوبر الاوروبية وتدخلت الملائكة
لتنقذه بهدف تعادل في اللحظات الاخيرة من الشوط الاضافي الثاني (2-2) بتوقيع الاسباني
خافي مارتينيز قبل ان يحسم امره بركلات الترجيح، فيما لم يواجه منافسة حقيقية في
مونديال الأندية بضيافة المغرب.
أمّا الدوري المحلي فبات ولوج اعلى نقطة من
منصة التتويج فيه بمثابة الواجب على ناد يملك من الاموال ما تعجز الأندية الاخرى
مجتمعة في بلوغ اعتابه.
ماذا حقق "بيب" بالتالي لبايرن
ميونيخ؟ برأي البعض انجز الكثير، لكن بنظر الفاهمين في كرة القدم، غوارديولا وصل
العاصمة البافارية لقيادة فريقها الى الاحتفاظ بـ"العرش الاوروبي"،
عالماً ان اقل من ذلك يعتبر فشلاً.
خسر امام مانشستر سيتي الانكليزي على ارضه في
دوري الابطال، عانى قليلاً امام مواطنيه ارسنال في الدور الثاني وكثيراً امام
مانشستر يونايتد في ربع النهائي. خسر كأس السوبر الالمانية امام دورتموند.
اراد غوارديولا استنساخ برشلونة بافارياً بعد
ان ساهم اسلوبه الذي يعرف بالـ"تيكي تاكا" في تتتويج النادي الكاتالوني
بـ 14 لقبا في غضون 4 سنوات.
ظهر على بايرن بعضاً من برشلونة في عدد من
المباريات، سواء المحلية منها او الخارجية، بيد ان الفريق افتقد الى الحسم الذي
كان حاضراً بقوة في عهد المدرب الاسبق يوب هاينكيس.
الاستحواذ مهم الا ان تبادل الكرة دون
انهائها في الشباك بات يلقى سخطاً في اوساط اللعبة، وهو ما عبّر عنه "القيصر"
فرانتس بكنباور الذي لطالما انتقد اسلوب غوارديولا في مقاربة اللعبة.
المدرب الاسباني لا يملك في ميونيخ لاعباً
بمنزلة الارجنتيني ليونيل ميسي قادر على انهاء الاستحواذ بهدف، هدفين او اكثر،
سواء من اختراق سلس او تسديدة خرافية، ولا يمتلك عنصراً مثل اندريس انييستا ينسلّ
في المنطقة المحرّمة ويجترح المعجزات في مساحة نصف متر.
بايرن كان مباشراً اكثر في تعاطيه مع الكرة،
وبات اليوم في عهد "بيب" يُكثر من دلع "الحبيبة" ولا يبلغ وايّاها
نشوة الوصال.
في المقابل، بدا ريال مدريد في مباراتيه
وبايرن وكأنه قادم من كوكب آخر.
صحيح أن المآخذ عليه بلغت حدّها في جولة
الذهاب حين تقوقع دفاعاً واعتمد على الهجمات المرتدة، بيد انه جاء الى ميونيخ
للفوز إياباً وطبّق مدربه الايطالي كارلو انشيلوتي خطةً لطالما تميّز بها بايرن
ميونيخ نفسه، وتتمثل بالتحكم بنسق المباراة دون شرط الاستحواذ الواهي على الكرة.
ادرك ريال مدريد بالتحديد ما كان يريده. رسم
الخطة وطبقها بحذافيرها، ويُحسب لأنشيلوتي تفوقه التام على غوارديولا الذي بدا
قزماً امام منافسه.
الطامة الكبرى ان مدرسة غوارديولا ارتبطت به،
وهو لا يجيد غيرها، وجاءت المهزلة امام ريال مدريد لتفرض عليه بالمنطق اعادة نظر،
ربما في شخصيته التدريبية.
سيصبر بايرن على "بيب" الذي مُنح بعد
يوم واحد على الاقصاء ضوءاً اخضر لإجراء الصفقات التي يريد.
هنا نستشعر ان النادي البافاري يريد القيام بـ"أي
شيء" لتأكيد صوابية التعاقد مع غوارديولا بعد ان كان في السنوات الماضية
متحفظاً جداً في تعاقداته.
فهل يتشبث غورديولا بأسلوبه في فريق بـ"عقلية
المانية راسخة" ام يتنازل عنه؟
باتت المسألة "شخصية" اكثر اذ يريد
"بيب" النجاح بـسلاحه اي بـ"الاستحواذ"، اما بايرن فيريد
النجاح بأية طريقة.
وفي هذه الاثناء، فرض ريال مدريد نفسه قوة
ضاربة، وقدم كرة قدم حديثة باعتراف الجميع، كما انه عقّد الالمان يعد ان اخرج
شالكه وبوروسيا دورتموند وأخيراً بايرن ابتداً من الدور الثاني للـ"تشامبيونز
ليغ".
كان انشيلوتي على حق بأنه لن يحتاج الى
اوزيل. ولا شك في ان مساعده الفرنسي زين الدين زيدان كسب في رهان الاعتماد على
مواطنه كريم بنزيمة الذي بان بفورمة ممتازة امام بايرن تحديداً.
الويلزي غاريث بايل نجح بامتياز في موسمه
الاول مع "الملكي"، ويُحسب له ذاك الهدف الخرافي في مرمى برشلونة خلال
المباراة النهائية لكأس اسبانيا.
ويبقى رونالدو لاعباً متكاملاً يتمناه اي
مدرب. هدفه الثاني ذكّرني بآخر مشابه له سجله البرازيلي رونالدينيو قبل فترة لصالح
برشلونة.
اعتقد اليوم بأن سؤالي الى سامر كان اهم ما
في رحلة بايرن الى الكويت. لم يكن سؤالاً بقدر ما كان تعبيراً عن وجهة نظر.
اما غوارديولا فقد سقط حيث راهنته لانه لم
يحقق دوري الابطال، فيما اثبت انشيلوتي انني أخطأت في ما يتعلق بأوزيل.
يبقى القول ان فشل ريال مدريد في احراز
"العاشرة"، إن حصل، سيعيد كل شيء الى نقطة الصفر، ويعود الحديث عن اوزيل
الى حيث كان.
لم أحزن كثيراً لسقوط بايرن ميونيخ لأن ريال
مدريد "إنتصر لفريقي"، لأن "الملكي" أكد لغوارديولا ما كنت انا
شخصياً أدركه منذ وصول "بيب". لكن ذلك لا يمسح عني غبار الهزيمة
الواضحة.
بعد حوالي عشرة اشهر على وصول رسالة شقيقتي
عبر "واتساب"، قررت الآن ان ارد عليها بالتالي: "كنت اريد ان اكتب
لك قبل اشهر رداً وأقول بأن التعاقد مع غوارديولا سيدمرنا ويقضي على هويتنا".
في الواقع، كتبت الرسالة ثلاث مرات، لكني لم
ارسلها. لن ارسلها.
فأنا لا اتنكّر لـ"فريقي" ولا الى
"مدربي" ولا الى "ذاتي".
انتهت القصة. فاز ريال مدريد بجدارة. انتهى بايرن.
لكن نهايات الابطال وُجدت لتبعثهم من جديد، إن لم يكن فوراً ... ففي ما هو قادم من
ايام.














