2 سبتمبر/أيلول 2013
(منشور في جريدة "النهار" اللبنانية)
كتب: سهيل الحويك
في
منتصف تسعينات القرن الماضي، بدأ نادي باير ليفركوزن فرض نفسه قوة طموحة
لا يُستهان بها على ساحة كرة القدم الالمانية إلى حدّ تهديد الهيمنة شبه
المطلقة لبايرن ميونيخ.
لم يكن خافياً في تلك الحقبة ان الفضل في فورة ليفركوزن تعود في المقام الاول الى المدرب "الثورويّ" كريستوف دوم.
بدأ
مشواره التدريبي مع نادي اف. سي. كولن عام 1986 الا انه لم ينجح خلال
السنوات الاربع التي امضاها معه في قيادته الى منصات التتويج، فانتقل الى
شتوتغارت في 1990 ليتوج معه بلقب الدوري المحلي في موسم 1991-1992.
تحوّل
في 1994 الى بشيكطاش التركي وقاده الى احراز لقب الدوري المحلي، قبل
العودة الى المانيا وتولي مقدرات ليفركوزن ابتداء من 1996. هنا بدأت مشاكله
مع بايرن ميونيخ، اذ نجح في تهديد الفريق البافاري على رغم تتويج الاخير
بلقب "البوندسليغه" في 1997 و1999 و2000 وحلول ليفركوزن بالذات وصيفاً له
في المناسبات الثلاث.
كانت
لدوم أيضاً تصريحات نارية انتقد فيها بايرن حتى بات نجماً مطلقاً للدوري ،
متسلّحاً بأساليب تدريبية مبتكرة وشخصية قوية صوّرت عناصر الفريق وكأنهم
يلعبون من أجله. وفوق كل ذلك، كان ساحراً في تحفيز لاعبيه واستخراج الافضل
من كل منهم.
بيار
ليتبارسكي، لاعب كولن السابق والفائز مع منتخب المانيا بكأس العالم 1990،
تحدث عن تأثير مدربه السابق فقال: "في بعض الأحيان، لم نكن نلاحظ ان تدريبه
كان يستنفد قوانا لانه كان يطلب المزيد دائماً".
بعد
الخروج المذلّ لألمانيا من الدور الاول لـ"أورو 2000"، طفا الى السطح اسم
دوم مرشحاً وحيداً لتولي قيادة المنتخب واستعادة كرامته.
لم يكن ليفركوزن في وارد التفريط به، وعرض في المقابل، "الإداري" رودي فولر كبديل موقت منه لقيادة المنتخب.
الاتحاد الالماني اعطى موافقة مبدئية على تولي فولر المهمة في انتظار انتهاء دور دوم في ليفركوزن.
فجأةً
ظهر أولي هونيس، المدير التجاري والمدير العام لبايرن ميونيخ وقتذاك ورئيس
النادي حالياً، ليدلي بتصريح جريء في 30 ايلول 2000 اعتبر فيه ان الاتحاد
الالماني اخطأ في اختياره دوم لتولي تدريب "ناسيونال مانشافت" قائلاً: "يجب
اعادة فتح الملف".
لم
يكن العداء بين الرجلين مستجداً، فقد سبق لهما ان اجتمعا في برنامج
تلفزيوني عُرض على الهواء مباشرة واستحوذ على متابعة الملايين في المانيا،
وتبادلا فيه عبارات قاسية على خلفية صراع الناديين على زعامة كرة القدم في
البلاد.
بعد
أيام على مطالبة هونيس بـ"إعادة فتح الملف"، نشرت صحيفة "ابندتسايتونغ" ما
جرى اعتباره أشبه بزلزال وتمثّل بتصريحات خطيرة لهونيس نفسه كشف فيها
السبب الذي لا يجب على اساسه ان يتولى دوم تدريب المنتخب، اذ اتهمه بتعاطي
البغاء على رغم انه متزوج، فضلاً عن ابتزازه عدداً من الاشخاص.
لم تهدأ العاصفة حتى بعد تراجع هونيس عن ادعاءاته بعد ايام.
رجالات بايرن لم يدعموا هونيس فوراً، بل فضلوا التريث نظراً الى انتفاء دليل قاطع على ادعاءاته.
بول برايتنر حدد موقفه من المسألة بالقول: "في نهاية الامر، سينتهي أحد الرجلين".
اما
فرانتس بكنباور، رئيس النادي وقتذاك، فقد رفض اتخاذ موقف، تاركاً هونيس
بمفرده في صراعه مع دوم الذي بدا واثقاً من انتصاره ومصرّاً على تولي تدريب
المنتخب، الا انه رفض مواجهة غريمه مباشرة على الهواء كما طالب كثيرون.
ويبدو
ان هونيس همس في اذن بكنباور بعضاً من "زلات دوم"، فما كان من الأخير الا
ان صبّ مزيداً من الزيت على نار الأزمة، عندما نصح دوم المدرب عبر وسائل
الاعلام بتجهيز دفاعه للرد على لائحة طويلة من الاتهامات التي سيوجهها له
هونيس وتهدد بالتالي وصوله الى المنتخب.
أبرز
الاتهامات تتمثل في تعاطي دوم مادة الكوكايين، فما كان من مدرب باير
ليفركوزن إلا ان قدّم، من تلقاء نفسه، عينة من شعره الى لجنة التحقيق في
كولن كي تخضعها للاختبار قائلاً: "اقوم بذلك لأن ضميري مرتاح تماماً".
انتظر
الألمان بفارغ الصبر اعلان براءة دوم "الرجل الشعبي"، واطلق الكثيرون صفات
سيئة على هونيس "الرجل البغيض"، الا ان الأخير أصرّ على موقفه قائلاً:
"كثير من الناس سيعتذرون عما يدّعونه بحقي".
حصل
دوم على دعم شبه مطلق، الى ان وقع الانفجار الكبير في 20 تشرين الاول 2000
عندما اعلم البروفسور كايفرشتاين رئيس نادي ليفركوزن، راينر كالموند، بأن
اختبار عينة الشعر جاء ايجابياً وان المدرب تعاطى الكوكايين بالفعل.
لم يكن امام ليفركوزن سوى اقالة دوم فوراً، كما تراجع الاتحاد الالماني عن الاستعانة به لتدريب المنتخب.
عندها
فقط عُرف السبب خلف اقدام رئيس نادي كولن، ديتمار ارتزينغر-بولتن، على
اقالة دوم خلال مونديال 1990 من دون اعطاء تفسيرات محددة للقرار.
خسر
دوم، وانتصر هونيس. حتى ان الاول لم ينكر الاتهام بل اكّد انه اقدم على
تعاطي الممنوعات نتيجة انفصاله عن زوجته، وقال: "اقترفت خطأ فادحاً لعدم
قدرتي على تحمل المسؤولية كاملة. كنت عاجزاً".
وعن
السبب في اعطائه طوعاً عينة من شعره، قال: "كذبت على الجميع ولم اكن اريد
ان اعترف بضعفي. اعتقدت اني سأنفد من المصيبة بطريقة او بأخرى".
توجّه
دوم الى الولايات المتحدة هرباً من ذيول الفضيحة بعدما قدم عينة شعر اخرى،
الا انه اقرّ بالخطأ في نهاية الأمر وأكد أنه يشعر بالندم، وأشار في كانون
الثاني 2001 الى انه يخضع لعلاج من ادمان الكوكايين، وقال: "نعم تعاطيت
الممنوعات. نعم كذبت. اريد ان اعتذر لكل من وقف بجانبي وساندني".
صحيح
ان دوم عوقب بدفع غرامة والقيام بخدمات اجتماعية، الا ان كل ذلك لم يبيّض
يوماً صفحته، ويقول: "حُكم علي بالعقوبة القصوى من الناس. هذه هي عقوبتي
الكبرى. علي ان اعتاد على العيش والاصابع موجّهة نحوي على الدوام".
لا
شك في ان اضاعة فرصة توليه مقدرات المنتخب سببت له جرحاً كبيراً. "كانت
الفرصة الاعظم في حياتي، وخصوصاً عندما اعود بالذاكرة الى خطط التطوير التي
قدمتها الى الاتحاد المحلي. اليوم عادت خططي الى اجندة الاتحاد عبر اوليفر
بيرهوف".
بعد خضوعه للعلاج في الولايات
المتحدة، عاد دوم الى التدريب من بوابة بشيكطاش للمرة الثانية (موسم
2001-2002)، ثم تحوّل الى اوستريا فيينا النمسوي في موسم 2002-2003 وتوج
معه بلقب بطل الدوري، ففنربخشة (2003 الى 2006) وقاده الى اعلى نقطة من
منصة التتويج في الدوري التركي في موسمي 2003-2004 و2004-2005.
رفض
في مؤتمر صحافي نادر اجراه في المستشفى حيث عولج من الادمان أن يعود يوماً
الى تدريب كولن لأسباب صحية، الا انه تراجع عن كلامه وتولى المهمة ابتداءً
من 2006 في محاولة لمساعدة الفريق على العودة الى دوري الاضواء.
خيّب
دوم (60 سنة في تشرين الاول المقبل) الآمال مجدداً بعدما تخلى عن كولن غير
المستقر في توقيت حرج، وذلك في سبيل العودة الى فنربخشة ابتداءً من 2009
وقد استمر مع النادي التركي حتى 2010، لينتقل بعدها الى اينتراخت فرانكفورت
الالماني (2011) ومنه الى كلوب بروج البلجيكي (موسم 2011-2012).
قبل
أيام، عيّن نادي بورسة سبور التركي دوم للاشراف على فريقه في الموسم
الجديد ليخلف حكمت كارامان المقال عقب الخسارة امام اف كاي فويفودينا
الصربي 0 – 3 في الدور التمهيدي الثالث من مسابقة "أوروبا ليغ".
لم ينسَ دوم بالتأكيد ذاك الاختبار الصعب الذي عاشه وخصوصاً أنه لا يزال يرافقه أينما حلّ وارتحل.
ومن
سخرية القدر ان الكأس التي شرب منها يوماً تمرّ حالياً بهونيس نفسه، بعدما
اتُهم الأخير بالتهرب الضريبي من ممثلي الادعاء في مدينة ميونيخ.
وكان
هونيس (61 سنة) كشف طواعية في كانون الثاني الماضي عن حساب مصرفي له في
سويسرا. وبدأت سلطات الضرائب منذ ذلك الحين التحقيقات في هذا الشأن، حتى
وجهت إليه المحكمة المختصة اتهاماً رسمياً بالتهرب الضريبي.
ويواجه
رئيس نادي بايرن ميونيخ عقوبة السجن، الا انه يأمل في قدر من التساهل لأنه
افصح بنفسه عن الأمر، مؤكداً ان لا صلة للحساب ببايرن ميونيخ. وقال ان
الحساب شخصي وقام بفتحه من اجل تعاملاته في البورصة. كما أقر بقيامه
بمراهنات بمبالغ كبيرة وانه تعرّض لخسارة فادحة.
لم
يسلم هونيس من انتقادات المستشارة الالمانية انغيلا ميركل التي اعربت عن
خيبتها من رئيس النادي بطل الثلاثية التاريخية والذي يعتبر من الشخصيات
العامة المرموقة في بلاده وغالباً ما دعا رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم
"الفيفا" السويسري جوزف سيب بلاتر، الى القيام بجهد اكبر من اجل مكافحة
الفساد في اروقة السلطة الكروية العليا.
لطالما
مثّل هونيس الذي يملك معملاً لتصنيع النقانق الالمانية الشهيرة
"براتفورست"، رجل الاعمال المستقيم الذي يتمتع بمبادئ جعلته ينتقد الطريقة
التي تدير بها النوادي الأوروبية الاخرى اعمالها.
لكن
رئيس النادي البافاري، المعروف بأعماله الخيرية، بات محط سخرية الصحف
الالمانية التي وصفته بالرجل الساقط اخلاقياً والذي "يعظ الناس بشرب المياه
فيما يشرب هو النبيذ"، وهو مثل الماني يشير الى ازدواجية المبادئ.
لا شك في أن دوم ثأر من هونيس بطريقة غير مباشرة بعد 13 سنة. لم يخرج الى العلن للنيل ممن حرمه بحق فرصة تولي تدريب منتخب المانيا.
بينه
وبين نفسه، يشعر دوم بالرضا، وربما بانتصار دفين لطالما اراده على هونيس،
وربما على بايرن ميونيخ بالذات بصفته مدرباً سابقاً لليفركوزن.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق